recent
أخبار ساخنة

تفسير العلامة ابن عثيمين رحمه الله (سورة الماعون)



{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 
{أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}. 

قال رحمه الله: البسملة تقدم الكلام عليها. 
 يقول الله تبارك وتعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين} {أرأيت} الخطاب هل هو للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه الذي أنزل عليه القرآن؟ أو هو عام لكل من يتوجه إليه الخطاب؟ العموم أولى فنقول: {أرأيت الذي} عام لكل من يتوجه إليه الخطاب، {أرأيت الذي يكذب بالدين} أي بالجزاء، وهؤلاء هم الذين ينكرون البعث ويقولون: {أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون. أوءاباؤنا الأولون} [الصافات: 16، 17] . ويقول القائل منهم: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78] . 
هؤلاء يكذبون بيوم الدين أي: بالجزاء. 
{فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين} فجمع بين أمرين: الأمر الأول: عدم الرحمة بالأيتام الذين هم محل الرحمة؛ لأن الأيتام هم الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا، وهم محل الشفقة والرحمة؛ لأنهم فاقدون لابائهم فقلوبهم منكسرة يحتاجون إلى جابر. ولهذا وردت النصوص بفضل الإحسان إلى الأيتام. 
لكن هذا ـ والعياذ بالله ـ {يدع اليتيم} أي: يدفعه بعنف، لأن الدع هو الدفع بعنف كما قال الله تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعًّا} [الطور: 13] . أي: دفعاً شديداً، فتجد اليتيم إذا جاء إليه يستجديه شيئاً، أو يكلمه في شيء يحتقره ويدفعه بشدة فلا يرحمه. 
الأمر الثاني: لا يحثون على رحمة الغير {ولا يحض على طعام المسكين} فالمسكين الفقير المحتاج إلى الطعام لا يحض هذا الرجل على إطعامه؛ لأن قلبه حجر قاسٍ، فقلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة. إذاً ليس فيه رحمة لا للأيتام ولا للمساكين، فهو قاسي القلب.
ثم قال عز وجل: {فويل للمصلين} ويل: هذه كلمة وعيد وهي تتكرر في القرآن كثيراً، والمعنى الوعيد الشديد على هؤلاء، {الذين هم عن صلاتهم ساهون} هؤلاء مصلون يصلون مع الناس أو أفراداً لكنهم {عن صلاتهم ساهون} أي: غافلون عنها، لا يقيمونها على ما ينبغي، يؤخرونها عن الوقت الفاضل، لا يقيمون ركوعها، ولا سجودها، ولا قيامها، ولا قعودها، لا يقرأون ما يجب فيها من قراءة سواء كانت قرآناً أو ذكراً، إذا دخل في صلاته هو غافل، قلبه يتجول يميناً وشمالاً، فهو ساهٍ عن صلاته، وهذا مذموم، الذي يسهو عن الصلاة ويغفل عنها ويتهاون بها لا شك أنه مذموم. أما الساهي في صلاته فهذا لا يُلام. 
والفَرْقُ بينَهما أن الساهِيَ فِي الصَّلاة مَعناه أنَّه نَسِيَ شيئًا، نَسِيَ عدَد الرَّكَعات، نَسِيَ شيئًا من الواجِباتِ ومَا أَشبَهَ ذلِك؛ ولِهَذا وقَعَ السَّهْو من رَسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهُو أشَدُّ النَّاس إِقبالًا على صَلاتِه، بل إِنه قالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلامُ: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»، ومَع ذلِك سَها فِي صَلاتِه؛ لأن السَّهْو فِي الشيءِ مَعناه أنَّه نَسِيَ شيئًا على وجهٍ لَا يُلامُ عليه، أمَّا الساهِي عن صَلاته فهُو مُتَعمِّد للتَّهاوُن فِي صَلاته، ومن السَّهْو عن الصَّلاة أُولئِكَ القومُ الَّذِين يَدَعون الصَّلاة مَع الجَماعة، فإِنهم لَا شَكَّ عن صَلاتِهم ساهون، فيَدخُلون فِي هَذا الوَعيدِ. 
{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} أيضًا إِذَا فعَلوا الطاعةَ فإِنَّما يَقصِدون بها التَّزلُّف إِلى النَّاس، وأن يَكُون لَهُم قِيمة فِي المُجتَمَع، ليسَ قَصْدُهم التَّقرُّبَ إِلى الله عَزَّ وجَلَّ، فهَذا المُرائِي يَتَصدَّق من أَجْل أن يَقول النَّاسُ: مَا أَكرَمَه! هَذا المُصلِّي يُحسِن صلاتَه من أَجْل أن يَقول النَّاسُ: مَا أَحسَنَ صَلاتَهُ! ومَا أَشبَهَ ذلِك، هَؤلاءِ يُراؤُون، فأَصْل العِبادة لله، لكِن يُريدون مَع ذلِك أن يَحمَدَهم النَّاسُ عليها، ويَتَقرَّبون إِلى النَّاس بتَقرُّبهم إِلى الله، هَؤُلاءِ هُمُ المُراؤُون، أمَّا مَن يُصلِّي لأَجْل النَّاس بمَعنَى: أنَّه يُصلِّي بين يَدَيِ المَلِك مثَلًا أو غيره يَخضَع لَه رُكوعًا أو سُجودًا، فهَذا مُشرِك كافِر قَد حرَّم الله عليه الجَنَّة ومَأْواه النارُ، لكِن هَذا يُصلِّي لله مَع مُراعاة أن يَحمَده النَّاس على عِبادتِه، على أنَّه عابِدٌ لله عَزَّ وجَلَّ، 
وهَذا يَقَع كثيرًا فِي المُنافِقين، كمَا قالَ اللهُ تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّـهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:١٤٢]، انظُرْ إِلى هَذا الوَصْفِ إِذَا قاموا إِلى الصَّلاة قاموا كُسالى، إِذَنْ هُمْ عن صَلاتِهم ساهون، يُراؤُون النَّاس. 
وهُنا يَقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} فهَلِ الَّذِين يُسمِّعون مِثْلهم؟ يَعنِي: إِنسان يَقرَأ قُرآنًا ويَجهَر بالقِراءة ويُحسِن القِراءة، ويُحسِن الأَداء وَالصَّوْت من أَجْل أن يُقال: مَا أَقرَأَهُ! هل يَكُون مِثْل الَّذِي يُرائِي؟ الجَوابُ: نعَمْ، كمَا جاءَ فِي الحَديثِ: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِـهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِـهِ»، المَعنَى: مَن سمَّع فضَحَه اللهُ، وبيَّنَ للناس أن الرَّجُل ليسَ مُخلِصًا، ولكِنَّه يُريد أن يَسمَعه النَّاس، فيَمدَحوه على عِبادَتِه، ومَن راءَى كذَلِك راءَى اللهُ به، فالإِنسانُ الَّذِي يُرائِي النَّاس، أو يُسمِّع النَّاس سَوْف يَفضَحهُ الله، وسَوْف يَتَبيَّن أَمْره إِن عاجِلًا أم آجِلًا. 
{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي: يَمنَعون مَا يَجِب بَذْله من المَواعِين؛ وهِي الأَوانِي، يَعنِي: يَأتِي الإِنسان إِليهِم يَستَعير آنِيةً يَقولُ: أنا مُحْتاجٌ إِلى دَلْو، أو مُحْتاج إِلى إِناءٍ أَشرَبُ به، أو مُحتاجٌ إِلى مِصْباح كَهرَباء. ومَا أَشبَهَ ذلِك، فيُمنَع، فهَذا أيضًا مَذمومٌ. 
ومنع الماعون ينقسم إلى قسمين: 
القسم الأول: قسم يأثم به الإنسان. 
القسم الثاني: قسم لا يأثم به، لكن يفوته الخير. 
فما وجب بذله فإن الإنسان يأثم بمنعه، وما لم يجب بذله فإن الإنسان لا يأثم بمنعه لكن يفوته الخير. مثال ذلك: إنسان جاءه رجل مضطر يقول: أعطني ماءً أشربه، فإن لم أشرب مت، فبذل الإناء له واجب يأثم بتركه الإنسان، حتى إن بعض العلماء يقول: لو مات هذا الإنسان فإنه يضمنه بالدية، لأنه هو سبب موته ويجب عليه بذل ما طلبه. 
 فيجب على المرء أن ينظر في نفسه هل هو ممن اتصف بهذه الصفات أو لا؟ 
إن كان ممن اتصف بهذه الصفات قد أضاع الصلاة وسها عنها، ومنع الخير عن الغير فليتب وليرجع إلى الله، وإلا فليبشر بالويل ـ والعياذ بالله ـ.
وإن كان قد تنزه عن ذلك فليبشر بالخير، والقرآن الكريم ليس المقصود منه أن يتلوه الإنسان، ليتعبد لله تعالى بتلاوته فقط، المقصود أن يتأدب به ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن» . 
خُلقه يعني أخلاقه التي يتخلق بها يأخذها من القرآن. وفقنا الله لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة. إنه على كل شيء قدير.
google-playkhamsatmostaqltradent